نظرات وتأملات في قصائد تنسب بني ياس والمناصير إلى قضاعة
علم النسب من العلوم التي اشتهرت عند العرب من قديم الزمان وقبل مجيء الإسلام، وسبب ذلك تكوين الأمة العربية عن غيرها من الأمم، فالعرب لهم قبائل ينتسبون إليها ويتفاخرون بها، وأما غيرهم من الأعاجم فينتسبون إلى المناطق والبلدان كالطوسي والسجستاني، أو إلى الحرف التي امتهنوها كالخباز والخياط وغير ذلك، ونسبة الشخص إلى قبيلته أو بلده مما يسهل في التعرف عليه وتمييزه عن غيره، قال تعالى: {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} [الحجرات:13]، ولهذا كان اهتمام أهل الحديث بهذا العلم أكبر وأعظم من غيرهم؛ لحاجتهم في معرفة راوي الحديث وتمييزه عن غيره من الرواة كي يحكموا من خلال علم الحديث إما بقبول روايته أو ردها.
قال السمعاني: (معرفة الأنساب من أعظم النعم التي أكرم الله تعالى بها عباده؛ لأنّ تشعّبَ الأنسابِ على افتراق القبائل والطوائف أحد الأسباب الممهدة لحصول الائتلاف، وكذلك اختلاف الألسنة والصور وتباين الألوان والفطر)(1).
وعلم النسب هو علم يبحث في أصول الأمم والشعوب والقبائل والأشخاص مع الاستدلال عليها بذكر الأدلة من كلام العلماء والنسّابين الثقاة، أو بما تعارف عليه الناس واشتهر لديهم بالنقل الصحيح عمن سبقهم (2)،
ولما كان هذا العلم يختص بأصول الرجال كان البحث فيه خطيراً؛ يحتاج إلى جهدٍ وتثبّت، وأن يكون الباحث فيه تقياً ورعاً يخاف الله عز وجل، ونقياً من الأهواء والأطماع الفاسدة، فربما اشتهر رجلٌ بأنه من القبيلة الفلانية ثم يأتي هذا الباحث فينكر ذلك وينسبه إلى غيرهم بقصدٍ أو بغير قصد، مما ينتج عن ذلك العداوة والبغضاء والاختلاف.
وقد دخل في هذا العلم في الآونة الأخيرة –وللأسف الشديد- أناسٌ أحداثٌ تكلموا في أنساب الناس وخصوصاً في نسب بني ياسٍ والمناصير، وسوّدوا فيها الكتب والرسائل؛ فوقعوا في أخطاء جسيمة، وتخاليط عظيمة، بل وقع من بعضهم التحريف والتغيير الذي أفقد مصداقية الباحث، ونزع الثقة من صدور الباحثين والقراء في المعلومات التي يكتبها، وقد قيل: من قلّ صدقه قلّ صديقه، وليعلم هذا الذي يكتب في أنساب الناس ويدس فيها ما ليس منها أن الله كاشفه وفاضحه أمام الخلق ولو بعد حين.ومهما تكنْ عند امرئٍ مِن خَلِيقةٍ وإنْ خالها تخفى على النّاس تُعْلَمِ
بنو ياسٍ والمناصيرسجّل لنا التاريخ ذكر هاتين القبيلتين العظيمتين وما كانتا عليه في موطنهم (الظفرة) من قوةٍ ومنعة وشجاعة وكرم، إلا أنه من الصعب تحديد أقدم تاريخ يذكر اسم (بني ياس) في المنطقة، وقد ذكر المؤرخ العماني سرحان بن سعيد بن سرحان الأزكوي في
كتاب (كشف الغُمّة الجامع لأخبار الأمّة) بأن بني ياس قاموا بمساعدة ناصر الهلالي وحمايته في حصن الظفرة سنة 1633م(3)، فهذا أقدم تاريخ يذكر إطلاق اسم بني ياس على القبائل التي تسكن في الظفرة، وأما القبائل نفسها فهي موجودة فيها منذ القدم، وهذا ما يذكره أهل الظفرة ويتناقلونه أباً عن جد إلى هذا اليوم،
وأما القول بأنهم وفدوا إلى هذه البلاد وأخذوها عنوة من أهلها بحد السيف، ويحتج ببيت شعر يقول:
وحنّا وطينا عبد قيس بأرضها وأضحى نخلها بين ياسٍ يقسّمي(4)
إنما هو قولٌ كبيرٌ وإدعاءٌ خطيرٌ؛ لأن في مضمونه تنقص وطعنٌ في قبائل بني ياس، وقد أنكر هذا الكلام جل كبار السن ممن عرضناه عليه وذكرناه له، وأكدوا بأن الأرض أرض بني ياس والنخل نخلهم لم ينهبوها من أحدٍ، ولم يقتسموها بينهم، إنما ورثوها عن أجدادهم.ولا شك أن بني ياس والمناصير هم أعلم بتاريخهم ونسبهم من غيرهم، ونحن أدركنا كبار السن منهم وأخذنا عنهم تاريخ بلادنا وأنسابنا وأنساب الناس الذين وفدوا إلينا وهو مسجّلٌ عندنا في كتاب،
فلا يظن أحدٌ بأن بني ياس أو المناصير لا يعرفون شيئاً عن نسبهم أو يجهلون الأحداث التي جرت في أرضهم، كي يستعينوا برجلٍ أجنبي عنهم يسكن في قَطَرٍ أو غيرها من الأقطار ليعرّفهم بنسبهم ويُطْلعهم على تاريخهم، فهذا من عجائب الأمور وغرائب هذا الزمان.
فكرة إيجاد قضاعة في الظفرة
حاول بعض الباحثين إقحام قضاعة في أنسابنا وإدخالها في بلادنا، وحشد لهذه الفكرة المخترعة القصائد والأشعار، وعند إمعان النظر في تلك القصائد ومقارنتها ببعض، تجد أنها منسوبة إلى أشخاصٍ متفرّقين مع أن لها صبغةٌ متحدةٌ بيّنة، خارجةٌ من نَفَسٍ واحدٍ كما سيأتي بيانه، والغريب أنه منسوبٌ إلى أهلنا وجماعتنا في الظفرة وعند سؤال أهل الظفرة عن هذا القصيد نجدهم لا يعرفونه ولم يسمعوا به قط، ذلك لأنه واردٌ علينا من الخارج وبالتحديد من قطر(5)، وهذه قرائن قوية تدل على التلاعب في القصيد، ولا نعلم ما هو المغزى منه، ولكن نشك بأنه خارج من أشخاص يريدون أن يجعلوا لهم تواجداً عندنا ويصنعوا لهم مكاناً في بلادنا(6)، ولكن هيهات هيهات.قصيدة روضة الفلاحية
ومن ذلك القصيد الذي عاثت به أيدي المتلاعبين قول روضة بنت محمد الفلاحية من أهل محضر مزيرعة في الشيخ زايد بن خليفة حاكم أبوظبي (1855-1909):
(لا) يا جرن بن وايل قلبي عليك اضْعيف
لو مب هيني هزايل حطّيتك لي رديف
صوب شيخٍ للقبايل زايد زبن لمخيف
ياما دقم من عايل غزو ومرّه نكيف(7)
وردت هذه القصيدة في
كتاب (أطيب الثمرات) منسوبة لامرأة من القبيسات مع حذف بعض أبياتها وإضافة أبيات غيرها ركيكة لا تناسب معاني القصيدة، منها:
وإن مرّتك الذلايل خبّر أن عندك ضيف
ترثة روس الحمايل معقل وخنيف
لي يروون السلايل ولا يقبلون الحيف
فأدخل فيها أبيات تختص بالأنساب، حيث ذكر فيها معقل وخنيف، ثم عرّف بهذه الأسماء فذكر أن معقل جد قبيس القضاعي، وخنيف والده، وأن قبيساً هذا هو الذي تنتسب إليه قبيلة القبيسات!! (8)
فنقول: من أين لهذه المرأة البدوية بهذه الأسماء القديمة التي لا تُعرف إلا عن طريق كتب الأنساب؟ ومعروف عندنا أن النساء قديماً ليس لديهن معرفة بهذا العلم، وفي عصر الشيخ زايد بن خليفة قليل من الناس من كان يعرف القراءة والكتابة، ولم تكن كذلك كتب الأنساب موجودة لديهم.والأمر الآخر أن هذه القصيدة على وزن الونّة، فالذي أدخل تلك الأبيات فيها واضح أنه لا يعرف هذا النوع من القصيد، لأن قصيد الونّة معروفٌ لدى أهالي الظفرة أنه شعر الغزل ووصف الطبيعة والأحداث التي جرت في زمن الشاعر، فهو لا يستخدم للرثاء أو للتفاخر بالأنساب(9).
قصيدة الشيخ راشد بن مانع
والقصيدة الأخرى منسوبة للشيخ راشد بن مانع المنذري المنصوري منها قوله:
وموالك ترثة حميس بن موداع مصيّحين أهل الوبر والبطاحي
ومنا ضيغم بن جحيش يا خو ضيّاع ابن عمّه المكتوم هو والفلاحي
وزقلابٍ وطارش مواريث فراع وقبيس بن الخنيف مروي الرماحي
البو الشعر أهل رضوى وذيك الأضلاع مع الرحمي كسّابة للأمداحي
بنثور لا صحتوا بنا يا آل قضاع جد بقحطان عموقه أوضاحي(10)
وهذه القصيدة وللأسف أنها لم تؤخذ من أهل الشاعر، وإنما وجِدت في مكتبة الشيخ ناصر بن علي آل ثاني بقطر!! ولا أعلم ما الذي ذهب بها إلى هناك، وجاء في كتاب (أوثق المعايير) بأن القصيدة مأخوذة من مكتبة الشيخ فالح بن ناصر آل ثاني، ومحفوظة في المجمع الثقافي بأبوظبي(11)، وهذا غير صحيح وإنما هو تضليل على القراء، لأن المسؤولين في المجمع أنكروا وجودها عندهم.وعند تفحص ألفاظها ومكوناتها تجدها تشبه سابقتها من حيث الألفاظ وذكر شخصيات قديمة لا يمكن معرفتها إلا عن طريق كتب الأنساب التي طبعت حديثاً، والذي يؤكد أن مثل هذه الشخصيات لا وجود لها في شعر بني ياس
والمناصير هو عدم معرفة علماء الظفرة ومفكريها وشعرائها بهم،
وقصيد أهل الظفرة موجود عندنا متداول بيننا غير أننا لم نجد فيه ولا اسماً واحداً من تلك الأسماء! إضافة إلى إنكار العارفين من أهل الظفرة بهذه الأسماء الغريبة.قصيدة محمد بن سرور الوبراني
ومن ذلك القصيد أيضاً قصيدة الشاعر محمد بن سرور الوبراني المنصوري يرد فيها على قصيدة راعي الورية، وهي طويلة لكن نورد الأبيات الداخلة فيها وهي:
ترعاه عرب لنا على الغصب بالجنا بمصقّلاتٍ مرويينٍ أشفارها
بصبيان منصور بن قضاع لابتي هم روس قحطان العريضة ونارها
قبايل من راس رضوى تحدّرت تطارد مع خيل الصّحابة أمهارها
نزاحم من عصور الجهالة هل الجهل وأما حياة العزّ وأمّا ودارها
وهذه القصيدة كذلك لم تؤخذ من أهل الشاعر، وقد هاتفت أحد أحفاد الشاعر فوجدته يحفظها ولما سألته عن مصدرها أكد على أنها قصيدة جده ولكنه ذكر بأنه أخذها من صاحب كتاب (أوثق المعايير)، الذي بدوره أتى بها من قطر!!(12).إذاً مازال القصيد يأتينا من رجلٍ واحدٍ ومن مكانٍ واحدٍ أجنبي عنا، بالإضافة إلى أن الأبيات ألفاظها تشابه القصيد السابق من ذكر قضاع وقحطان ورضوى.
وهذه القصيدة يحفظها كبار السن عندنا منهم ابن شملان الفلاحي ولم يذكر هذه الأبيات،
لأن الذين سمعوها منه أنكروا وجود هذه الكلمات فيها.
قصيدة رويشد بن صالح الوبرانيومن ذلك القصيد أيضاً ما قاله رويشد الوبراني وهو قوله:
يا ناشد عنّا تدور الأخابير العود منصور ترانا بنينه
منصور بن جمهور جد المناصير وياس ابن عمه وحن مدعينه
أولاد قضاع زبون المذايير من عصر قحطانٍ وماضي سنينه(13)
وجاء في كتاب (أوثق المعايير) بأن القصيدة تعود إلى ما قبل الثلاثمئة سنة، وفي الحاشية بأنها من رواية الشاعر علي بن محمد المالكي عن والده، والسيد عبدالله بن هلال، والسيد أحمد بن هشلة الكعبي وجميعهم من قطر، إذاً مازال تاريخنا يصدّر إلينا من الخارج!وفي القصيدة تصريح بأن جد المناصير هو منصور بن جمهور وأنه ابن عم ياس وجميعهم أولاد قضاع،
وهذا مما يزيدنا يقيناً بأن القصيدة مركبة تركيباً مفتعلاً، لأن نَفَسها هو نَفَسُ القصيد السابق تماماً.ويظهر من القصيدة كذلك أن رويشد بن صالح عالم بالأنساب وإن لم نعرف شخصه أو شيئاً من حياته، لأنك إن أردت التعرف على منصور بن جمهور ستحتاج إلى كتب التاريخ وخصوصاً قبل ثلاثمئة سنة، وإذا وجدت هذه الكتب فكذلك تحتاج إلى أن تفتش فيها تفتيشاً دقيقاً عن اسم منصور بن جمهور؛ لأنه قليل من المؤرّخين من كتب عنه كالإمام الطبري في (تاريخ الأمم والملوك) حيث قال: (كان منصور بن جمهور أعرابياً جافياً غَيْلانياً)، يعني أنه صاحب مذهب خبيث وهو مذهب الخوارج.وذكر الطبري أيضاً في موضع آخر من كتابه
أن موسى بن كعب توجه إلى السند لقتال منصور بن جمهور فقاتله وهزمه ومن معه، ومات منصور عطشاً في الرمال، وأن أحد أصحاب منصور لما علم بمقتله أخذ عياله وخرج بهم في عدّة من ثقاته، فدخل بهم بلاد الخزر(14).
وجاء في (معجم البلدان) لياقوت الحموي: (خَزرُ: وهي بلاد الترك خلف باب الأبواب المعروف بالدَّرْبند)(15).
وهل يعقل أن يكون المناصير من نسل هذا الرجل الذي مات بالسند وعياله في بلاد الترك؟
أقول: السبب في جعل منصور بن جمهور جد المناصير؛ أنه كلبي من قضاعة، فحاول صاحب القصيدة أن يربط بينهم لتشابه الأسماء ولتأكيد قضاعية المناصير، ولكن محاولته هذه باءت بالفشل، فهو إنما بحث عنه في كتاب الكلبي (نسب معد واليمن الكبير)، ولكنه لم يبحث عن سيرته في كتب التاريخ ليقف على استحالة ربط المناصير به، ولهذا وقع في هذا الخطأ الكبير.قصيدة مروان بن مجرن المررومن ذلك القصيد أيضاً قصيدة مروان بن مجرن المري الجهني وهي قوله:
يقول مروان بن مجرن أخو
المرر قولٍ لمن منّه لحقنا لوم
ابن عمنا اللي مع حميس بن عامر وخواله معديت الخصوم جروم
تبيّن بأي المرّتين قرابتك بني رابع ربعك أو هم صروم
فأما بني غطفان فحلاف جدنا وأما بني رابع فأولاد عموم(16)
الناظر في هذه الأبيات يجد أنها مركّبة وفيها تكلّف وركاكة في صياغتها، وهي بكل تأكيد ليست كقصائد بني ياس لا في المبنى ولا في المعنى، فهي تشبه في محتواها القصائد السابقة في محاولة صاحبها ربط قبائل بني ياس بقبائل قضاعة، وفي هذه القصيدة يريد ربط قبيلة ياسية مشهورة على مر التاريخ بقبائل بني رابع وبني غطفان من قضاعة! وأما عن اسم الشاعر فالملاحظ عليه أنه كذلك مركّب من أسماء مشتهرة في قبيلة المرر مع إضافة (الجهني) كي يؤكد قضاعيته، والحقيقة أن كل هذه الأمور خيالات وظنون لا دليل عليها، وإنما هي مأخوذة من مخطوطة في مكتبة الشيخ ناصر بن علي آل ثاني في قطر!!وقبل إيراد القصيدة في
كتاب (أطيب الثمرات) ذكر أن نخوة قبيلة
المرر الياسية أولاد مروان نسبة إلى مروان بن مجرن المرر.
نعم نخوتهم أولاد مروان، ولكن من الذي قال أن هذه النخوة نسبة إلى مروان بن مجرن؟ وما هو الدليل على ذلك؟
{هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [البقرة:111]، أم هي استنتاجات وظنون؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظنّ؛ فإنَّ الظنَّ أكذب الحديث) متفق عليه.
وهذا القول الغريب
إنما هو تقوّلٌ على أحساب الناس وأنسابهم، والله عز وجل يقول: {ولا تَقْفُ ما ليس لكَ بهِ علمٌ إنَّ السّمعَ والبصَرَ والفؤادَ كلُّ أولئكَ كان عنه مسئولا} [الإسراء:36].
قصيدة بطي بن سهيل الفلاسيومن القصيد الذي أدخل على بني ياس
والمناصير قصيدة بطي بن سهيل الفلاسي منها قوله:
أن لكم حلف ونصرة جدكم منّا إذا ثار العجاج وقتّمي
إن بني جبلة بن أحمد عصبة والجد من ياس بن عبد الأعلمي
أهل الجياد المكعتية والجنا وبيارق الظفر العزيز الأقدمي
نحن الذي أفنت ضبات سيوفنا طي وبني قيس وآل محلّمي
وحنّا وطينا عبد قيس بأرضها وأضحى نخلها بين ياس يقسمي
وحنّا ظهدنا الأزد في عماناتها وتميم بالسيف الرقيق الأرخمي
ومنّا آل منصور بن جمهور الذي قاد الجموع بأدلم يتقدمي
ومنّا زبار وعبد ودّ وبحدل ورمانس وأبناء قطن وآل الكلثمي
والحرث منّا والفلاح وعامر وعبيدة بن سويد وآل الأعصمي
وأولاد ضيغم بن جحيشة ربعنا حلوا جبل طي أولاد الأسلمي(17)
والكلام على هذه القصيدة يحتاج إلى بعض التفصيل، فأقول: القصيدة تشابه سابقاتها في محاولة ربط بني ياس والمناصير بقضاعة، وذكر أسماء قديمة لا يمكن معرفتها إلا عن طريق كتب الأنساب، وذكر أحداث كبيرة على إثرها حصل تغيير كلّي في المنطقة! والغريب أن أهل المنطقة يعرفون الأحداث الصغيرة التي جرت في الظفرة، فمعرفتهم بالأمور الكبيرة من باب أولى، وأما ما ذكر في القصيدة فلا يعرفونه ولم يسمعوا به قط، وكذلك لما رجعنا إلى كتب التاريخ وبحثنا فيها لم نجد لها ذكرا.
فكيف يعتمد على قصيدة مغمورة لا يُعرف أصلها ولا صاحبها في تغيير نسبنا وتاريخنا، وهذه الورقة إنما أخذت من وريقات بيّنٌ أنها حديثة الكتابة، فهي أقرب إلى أوراق كراسة المدارس المخططة، ويلاحظ أن كاتبها لا يجيد القواعد الإملائية، والذي يؤكد حداثتها أنه ذُكر فيها اسم الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني (18)، وهو قريب العهد فإنه توفي سنة 1913م.وبناء على ذلك إما أن يكون صاحب هذه الأوراق الحديثة كتبها من ورقة أقدم منها، وإما أنه كتبها من حفظه، فإن كان نسخها من ورقة أخرى فعادة النساخ أن يذكروا ذلك ويبيّنوه، وهذا ما لم يحصل في هذه الأوراق، وإن كان كتبها من حفظه، فنقول من أين حفظها؟ ولماذا لا يعرفها أهل الظفرة؟ إذ هي تخصهم وتخص تاريخهم، مع وجود الحفاظ فيهم والمهتمين بعلوم الشريعة وأحداث التاريخ، وإن قلت بأنه ذكر فيها أن ابن عتيبة كان يعدها(19)، فهذا كما قيل: من أحالك إلى غائب فما أنصفك.وابن عتيبة - وهو خلف العتيبة المتوفى سنة 1926م-، عاصره أهلنا وكانت بينه وبين أجدادي صداقة حميمة، قال علي بن سالم بو ملحا المرر:
لولا خلف بالديره والشيخ بوحمدان
لسكن لي في جزيره وافارق الاوطان
فإن كان ابن عتيبة يردد
مثل هذه القصيدة التي تحمل أنساب بني ياس وأخبارهم، ولا نجد أحداً من بني ياس أو المناصير يعرفها ولا أحد يذكرها منهم، ثم تخرج في هذه الأيام المتأخرة من رجل يسكن في قطر، لأمر يدعو إلى الحيرة!!والغريب أنه جاء في
كتاب (أوثق المعايير)(20) تصوير لرسالتين من ناصر بن علي آل ثاني موجهة إلى صاحب الكتاب، كتب في الأولى: (بالنسبة لقصيدة ابو سهيل الفلاسي فهي من رواية بن عتيبة).
وكتب في الثانية: (ويؤكد بن عتيبة راويتها نسبتها للشيخ أبو سهيل بطي الفلاسي ويذكر فيها بعض الأسماء التي لم استطع تحديد هويتها وأكثرها من قبائل بني ياس).
وعند النظر إلى المخطوطة لا يظهر فيها أن ابن عتيبة يرويها، وإنما المكتوب أنه كان يعدها، لأن الرواية تستلزم ذكر من يرويها عنه،
والأمر الثاني أنه لا يوجد كذلك التأكيد المذكور من ابن عتيبة في نسبتها إلى أبي سهيل الفلاسي، وإنما هي توهمات
أوردها شغف النفس في ترويجها بين الناس لأمور خفية الله أعلم بها.
ثم ذكر بأن فيها أسماء لم يستطع تحديد هويتها؛ ثم سرعان ما حدّد هويتها بأنها من قبائل بني ياس، وهذا تناقض بيّنٌ، ولا يوجد في المخطوطة ما يوحي بأن تلك الأسماء التي فيها أنها من قبائل بني ياس، ولكن هكذا هم يريدون!
وأما أبو سهيل بطي الفلاسي ذكر بأنه جد شيوخنا الكرام من آل مكتوم حكام دبي دون ذكر ما يدل على ذلك، ولا ينبغي الجزم بذلك بمجرد تشابه الأسماء،
فإثبات ذلك أو نفيه يحتاج إلى دليل.
والقصيدة فيها افتخار بالجد البعيد الذي لا يعرف تاريخه ولا أفعاله، خصوصاً في تلك الفترة التي عاش فيها كما يُدّعى، ولم يفتخر بجده القريب ولا حتى أشار إليه، وهذا ليس من عادة بني ياس إلا إذا كان الجد القريب ليس له أمجاد يُفتخر بها،
ولا شك أن هذا غير صحيح. وكذلك جاء في المخطوطة بأن أبا سهيل الفلاسي من شيوخ ليوا،
وهذا من الأمور التي تدل على حياكتها، لأنه من المتعارف لدى أهل الظفرة أن آل بو فلاسة لم يكونوا في ليوا في حدود الثلاثمائة أو الأربعمائة عام الماضية، وإنما ذكروا في الظفرة في أقصى منطقة الساحل، وإذا كان لهم وجود في ليوا فيكون ذلك قبل مئات السنين؛ لأن ليوا كانت مساكن بني ياس قاطبة.
وروى لي السيد محمد بن صالح بن حمر عين المحيربي عن السيد عامر بن حمد الخييلي أحد رجالات الشيخ زايد بن خليفة الكبير أنه قال له: آل بو فلاسة لم يكونوا في ليوا وإنما يوجد ماء في آخر الساحل من جهة أبوظبي اسمه (بو رمرامة) لآل بوفلاسة، وهو مروى دائماً ينزلون فيه.
قلت: وهو يقع بالقرب من الجسر الذي يقع خارج منطقة مصفح حالياً.
وهذا يدل كذلك على عدم معرفة صاحب الكراسة بسكنى قبائل الظفرة وتاريخها، فكيف إذاً يؤخذ ممن هذا حاله تاريخنا وأنسابنا التي تخالف المتعارف عليه عندنا؟ ثم ترويجها في مجتمعنا بالكتب والرسائل ومواقع الانترنت.وللأسف أن هذه الأفكار انطلت على كثير من الناس وراجت بينهم وصدقوها من غير تثبت، وهم معذورون في ذلك لعدم معرفتهم بعلم الأنساب وتاريخ المنطقة، ولكن لا يعذر هذا الذي يروجها ويذيعها في كل ناد ومجلس
ويتكلم على كل من يخالفه في فكرته هذه، وأظن أن هذا ناشئ عن طيش واستعجال، لأن التكلم في علم الأنساب يحتاج إلى تأني وحذر.تابع المقال